أثار اتفاق الدفاع المشترك الأخير بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية جدلاً واسعاً وتكهنات عديدة حول أهدافه وتداعياته الإقليمية والدولية. وبعيداً عن التحليلات السطحية التي قد تربط الاتفاق بأحداث آنية أو توجهات خاطئة، فإن فهماً أعمق يتطلب منهجاً جيوسياسياً واستراتيجياً يفكك طبقات المصالح والتهديدات الإقليمية والدولية، بالاعتماد على رؤى وتحليلات من مصادر أجنبية متخصصة.
إن الاعتقاد بأن هذا الاتفاق موجه بالأساس ضد إسرائيل، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة في المنطقة، هو اعتقاد بعيد عن الواقعية بشكل كبير. فالاتفاقيات الدفاعية المشتركة، بطبيعتها، تستغرق سنوات من المفاوضات والتشاورات الدقيقة، ولا تُصاغ كرد فعل فوري على حادثة عابرة مثل قصف الجيش الإسرائيلي للعاصمة القطرية الدوحة. إلا أن الأهداف الحقيقية لهذا التحالف تقع في سياق جيوسياسي أوسع، يتحدد بتهديدات إقليمية واصطفافات دولية معقدة، كما تُشير إليه العديد من التحليلات الغربية.
احتواء النفوذ الإيراني وتقوية الجبهة السنية
يُشكل الخطر الإيراني، بنفوذه المتنامي في المنطقة عبر شبكة من الوكلاء والمليشيات، وبرنامجه النووي المثير للجدل، وتدخله في شؤون دول الجوار (اليمن، العراق، سوريا، لبنان)، تهديداً استراتيجياً للمملكة العربية السعودية ودول الخليج. وكما تُشير تحليلات مركز كارنيغي للسلام الدولي Carnegie Endowment for International Peace، فإن المملكة العربية السعودية تسعى باستمرار إلى بناء تحالفات قوية لمواجهة ما تعتبره تهديداً وجودياً من إيران.
في هذا السياق، تُمثل باكستان قوة عسكرية إسلامية كبرى، تمتلك قدرات نووية وخبرة عسكرية واسعة، وتاريخاً طويلاً من التعاون الأمني مع السعودية. إن التحالف مع باكستان يوفر للسعودية عمقاً استراتيجياً وقوة ردع إضافية في مواجهة التهديدات الإيرانية. كما يُمكن النظر إلى هذا الاتفاق كجزء من استراتيجية سعودية أوسع لـ”تقوية الجبهة السنية” في المنطقة، وهو مفهوم تُشير إليه دراسات في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” (Washington Institute for Near East Policy) عند الحديث عن التحالفات الإقليمية.
إن التغيرات الأخيرة في الحكومة الباكستانية وعلاقتها المتينة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي تترجم إلى سياسات متناغمة مع الأجندة الأمريكية في المنطقة، تعزز هذا التوجه. حيث ترى واشنطن في باكستان شريكاً محتملاً في استراتيجية احتواء إيران، خاصة في ظل تراجع دورها في أفغانستان. وبالتالي، فإن الهدف الأساسي والملح لهذا الاتفاق هو احتواء وتقويض التمدد الإيراني، والذي يُنظر إليه كتهديد للمصالح الأمريكية وحلفائها الإقليميين.
تحذير الهند وإعادة تشكيل موازين القوى في جنوب آسيا
لا يمكن فصل اتفاق الدفاع المشترك السعودي الباكستاني عن التطورات الجيوسياسية في جنوب آسيا. فبعد ميول الهند الأخير نحو الصف الصيني الروسي، وهو ما يُعتبر تحولاً في موازين القوى التقليدية وتحدياً للهيمنة الأمريكية في المنطقة، يصبح تحذير الهند من خلال هذا التحالف هدفاً استراتيجياً لباكستان والمملكة العربية السعودية، على اعتبار أن باكستان تسعى دائماً إلى تعزيز علاقاتها مع القوى الإقليمية لتعزيز موقفها التفاوضي ضد الهند.
فبالنسبة لباكستان يُمثل هذا التحالف تعزيزاً لموقفها الدفاعي والأمني في مواجهة الهند، التي تُعد خصماً تقليدياً لها وتُشاركها حدوداً متوترة، كما يُمكن أن يُشكل ورقة ضغط دبلوماسية في القضايا العالقة بين البلدين، مثل قضية كشمير. إن الدعم السعودي، سواء كان اقتصادياً أو عسكرياً، يُعزز من قدرة باكستان على الصمود والتفاوض.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية فيُتيح لها هذا التحالف تنويع شراكاتها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها إلى ما وراء حدودها التقليدية، مع إرسال رسالة واضحة للهند بأن أي تحركات جيوسياسية تخدم محوراً مناهضاً للمصالح الأمريكية ستُقابل بتحالفات مضادة. لذلك يمكن اعتبار هذا التحالف يُمكن أن يُستخدم كأداة للمساومة في “لعبة الشطرنج الجيوسياسية” في منطقة المحيط الهندي، وهي منطقة ذات أهمية متزايدة للقوى العالمية.
الرعاية الأمريكية وتعميق الشراكات الاستراتيجية
يتضح من سياق الأحداث والتحليلات أن هذا التحالف العسكري بين السعودية وباكستان لا يتم بمعزل عن الرعاية الأمريكية. فالعلاقات الممتازة للحكومة الباكستانية الحالية مع الولايات المتحدة، والتناغم بين السياسات الباكستانية والأمريكية، يُشيران إلى أن واشنطن تبارك هذا التحالف وتدعمه، لأنه يخدم أهدافها الاستراتيجية في المنطقة. تُبرز “مؤسسة راند” (RAND Corporation) في تقاريرها حول الأمن الإقليمي أهمية الشراكات الأمريكية مع الدول الإسلامية الكبرى لتحقيق الاستقرار ومواجهة مجموعة من التحديات. أولها الحد من النفوذ الإيراني الذي يعتبر أولوية قصوى للسياسة الأمريكية. لذلك فإن وجود تحالف دفاعي قوي في الجناح الشرقي لإيران يُمكن أن يُساهم في تقييد تحركاتها.
ثم بعد ذلك موازنة القوى في آسيا في ظل التنافس المتزايد مع الصين وروسيا، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفاتها لضمان استقرار موازين القوى في المنطقة الآسيوية الأوسع. ويُمكن أن يُنظر إلى هذا التحالف كجزء من استراتيجية أمريكية أوسع لـ”التحول نحو آسيا”، حيث تُصبح الشراكات الأمنية الإقليمية أكثر أهمية لتعزيز الاستقرار الإقليمي ومكافحة الإرهاب، ف من المنظور الأمريكي، يُمكن لهذا التحالف أن يُساهم في استقرار منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا، التي تُمثل نقاطاً ساخنة على الخريطة الجيوسياسية. كما يُمكن أن يُعزز التعاون في مكافحة الإرهاب، وهو هدف مشترك للولايات المتحدة وحلفائها.
أبعاد اقتصادية وسياسية إضافية
إلى جانب الأبعاد العسكرية والأمنية، يُمكن أن يحمل هذا الاتفاق أبعاداً اقتصادية وسياسية أوسع. مثل الدعم الاقتصادي السعودي لباكستان، لأنه لطالما كانت السعودية داعماً اقتصادياً رئيسياً لباكستان، خاصة في أوقات الأزمات. فهذا الاتفاق يُمكن أن يُعزز من تدفق الاستثمارات السعودية إلى باكستان، مما يُساهم في استقرار الاقتصاد الباكستاني الذي يُعاني من تحديات.
مما سيعزز مكانة باكستان في العالم كقوة إسلامية كبرى، خاصة في ظل سعي السعودية لتعزيز دورها القيادي في العالم الإسلامي. مما سيتأثر أيضا على دول الخليج في إعادة تشكيل بعض الديناميات داخل مجلس التعاون الخليجي، حيث تسعى السعودية لتعزيز شبكة تحالفاتها الأمنية.
خلاصة
إن اتفاق الدفاع المشترك السعودي الباكستاني هو تحالف استراتيجي متعدد الأبعاد، يهدف بشكل أساسي إلى احتواء النفوذ الإيراني وتحذير الهند في سياق جيوسياسي متغير، وكل ذلك برعاية أمريكية واضحة. بعيداً عن أي ربط بإسرائيل، التي لا تُشكل الهدف المباشر لهذا التحالف، فإن هذا الاتفاق يُعيد تشكيل بعض موازين القوى في المنطقة، ويُشير إلى مرحلة جديدة من الاصطفافات الاستراتيجية التي تُحددها مصالح الدول الكبرى والتهديدات الإقليمية المتنامية. كما يُبرز أهمية الشراكات الأمنية الإقليمية في تحقيق الاستقرار ومواجهة التحديات في عالم متعدد الأقطاب.