قلم الأستاذ محمد عيدني – فاس
تتراجع العدالة كلما تَقدَّم مسؤول نحو إغلاق الأبواب في وجه الكفاءات، وتُفتح في المقابل أمام المقربين وأصحاب النفوذ.
يتحدث الجميع عن الإصلاح، وعن تشجيع الشباب على خلق المقاولات، لكن الواقع يشي بعكس ذلك: ففرص الاستثمار تُوزَّع بالولاءات لا بالكفاءات، ويُختزل مبدأ تكافؤ الفرص في شعاراتٍ تُرفع على الورق وتُسقط في الممارسة.
المال والسلطة… تحالف المصالح:
يتحوّل المنصب العام، حين يلتقي المال بالسلطة، من وسيلةٍ لخدمة المواطن إلى أداةٍ لتقوية النفوذ الشخصي.
تُدار الصفقات في الخفاء، وتُمنح المشاريع الكبرى لأسماء معلومة سلفًا، بينما يُقصى المستثمرون الحقيقيون الذين لا يملكون سوى أفكارهم وجهدهم.
إنه احتكار ناعم لكنه قاتل، يخنق الإبداع ويزرع الإحباط في نفوس الشباب الطموح.
وفي ظل هذا المشهد، يتساءل المواطن: هل نعيش في دولة مؤسسات، أم في غابةٍ يأكل فيها القوي الضعيف؟
الفرص الضائعة وثمن الإقصاء:
حين تُغلق الأبواب أمام روّاد الأعمال النزيهين، لا يخسر الفرد وحده، بل تخسر الدولة بأكملها.
فالمشروعات الصغيرة والمتوسطة هي عماد أي اقتصادٍ وطني، وهي التي تخلق الوظائف وتُنعش السوق.
لكن كيف يمكن لمواطنٍ أن يؤسس مشروعًا تنافسيًا، إذا كانت المناقصات تُوزع على المقربين دون شفافية؟
وكيف يمكن لشابٍ أن يُبدع وهو يعلم أن الطريق إلى النجاح محجوز سلفًا لمن يملك “صلة” لا “كفاءة”؟
الإعلام بين الصمت والمحاباة:
في الوقت الذي يُفترض أن يكون فيه الإعلام سلطةً رابعة تراقب وتحاسب، اختار بعضه الصمت، أو التحول إلى بوقٍ لتلميع المسؤولين وأصحاب النفوذ.
تُصنع البطولات في العناوين، وتُخفى الحقائق خلف الإعلانات، بينما تُدفن قصص الكفاح الحقيقي في زوايا النسيان.
لكن الإعلام الحر، حين يقوم بدوره، يمكن أن يُعيد الثقة بين المواطن والدولة، لأنه يضع الضوء على الخلل بدلًا من تجميله.
أمل رغم العتمة:
ورغم كل هذا، لا يزال الأمل قائمًا في أن تعود المحاسبة إلى معناها الحقيقي، وأن يُصبح القانون فوق الجميع.
فالإصلاح لا يبدأ من تغيير النصوص، بل من إرادةٍ صادقة تفتح الأبواب لكل كفاءةٍ نزيهة دون تمييزٍ أو محاباة.
وحين يسود العدل في توزيع الفرص، يتحول الإحباط إلى طاقةٍ إنتاجية، ويستعيد المواطن ثقته في وطنه.
أخطر ما يمكن أن يصيب أي دولة ليس الفقر أو العجز، بل فقدان الثقة.
فحين يشعر المواطن أن الفرص لا تُوزّع بعدل، وأن طريق النجاح لا يُعبَّد إلا للمقرّبين، ينسحب بصمت من المشاركة في بناء الوطن.
لكن الأمل لا يزال ممكنًا، متى ما عادت المحاسبة إلى معناها الحقيقي، وتحوّل المنصب إلى مسؤولية لا امتياز.
فبناء الدولة العادلة لا يكون بالاحتكار، بل بربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحقيق المساواة، وإحياء روح تكافؤ الفرص