تحوّل الفضاء الرقمي في السنوات الأخيرة إلى ساحة مفتوحة يتزاحم فيها المؤثرون الجدد، ممن وجدوا في تطبيقات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب” منابر بديلة لصناعة الشهرة والتأثير. لم يعد الرأي العام يتشكل فقط عبر الصحافة والإعلام التقليدي، بل أصبح يُبنى بكلمة قصيرة، أو مقطع فيديو لا يتجاوز دقيقة، لكنه قادر على توجيه سلوك الناس ومواقفهم.
غيّر هؤلاء المؤثرون موازين التأثير في المجتمع، فبين من ينشر الوعي والمعرفة، ومن يلهث وراء “الترند” والمشاهدات، بات السؤال المطروح بإلحاح: أي قيم نزرع في عقول الأجيال الجديدة؟ هل نُكرّس ثقافة السطحية والتفاهة، أم نُعيد الاعتبار للمضمون الهادف والخلق القويم؟
لقد ساهمت هذه الطفرة الرقمية في خلق واقع جديد، تتصارع فيه الأخلاق مع الشهرة، والقيم مع الأرباح. فالكثير من المؤثرين لم يعودوا يبحثون عن تقديم رسالة، بل عن كسب المتابعين مهما كانت الوسائل. تُروج بعض الصفحات لمشاهد مسيئة، وتُبث مقاطع تافهة، ويُحتفى بأشخاص لم يقدّموا أي قيمة للمجتمع، في حين يُهمّش صُنّاع المحتوى الهادف الذين يحملون فكرًا ورسالة.
أمام هذا الانحراف، تبرز مسؤولية الدولة والمؤسسات التربوية والإعلامية في التصدي لهذه الظاهرة المتنامية. فليس المطلوب فقط إصدار قوانين تضبط الفضاء الرقمي، بل الأهم هو بناء وعي جماعي لدى الشباب حول الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا. ينبغي دعم المؤثرين الإيجابيين، وتشجيع المحتوى الثقافي والتعليمي، ومواكبة الأجيال الصاعدة ببرامج للتربية الإعلامية والرقمية.
لقد أدرك العالم اليوم أن معركة القيم انتقلت إلى الشاشة الصغيرة، حيث تتشكل المواقف وتُزرع الأفكار. وإن لم تُواكب الدولة والمجتمع هذا التحول بجدية، فإننا سنجد أنفسنا أمام جيل يُقاس نجاحه بعدد المتابعين، لا بما يقدمه من فكر وإنجاز.
ويبقى السؤال مفتوحًا: من يصنع القيم في زمن المؤثرين؟ هل ما زالت المدرسة والأسرة قادرتين على تحصين الشباب، أم أن “الخوارزمية” أصبحت المربي الجديد؟ أسئلة تستحق التفكير قبل أن نجد أنفسنا أمام أزمة أخلاقية يصعب ترميمها.